نحن أعضاء الكنيسة المجاهدة على الأرض، نجتاز هنا فترة اختبار نتعرض فيها لحروب روحية كثيرة، شرحها القديس بولس الرسول فقال "إن مصارعتنا ليست مع لحم ودم، بل.. مع أجناد الشر الروحية في السماويات" (أف 6: 12).. وقال إنها حرب تحتاج إلى "سلاح الله الكامل، لكي نقدر أن نثبت ضد مكايد إبليس" (أف 6: 11).
إن الله يريدنا أن ننتصر في هذه الحرب. والسماء كلها ترقب جهادنا، وتفرح إذ ترانًا غالبين.
الملائكة وأرواح القديسين في السماء، يصلون لأجلنا لكي ننتصر، "ويكون فرح في السماء بخاطئ واحد يتوب" (لو 15: 7). كذلك نعمة الله تعيننا لكي ننتصر، وروح الله يعمل فينا لكي نغلب.. أما إن سقطنا وانهزمنا، فإننا بهذا نحزن روح الله القدوس الذي ختمنا به" (أف 4: 30).
الإنسان الروحي هو إنسان منتصر.
لأن روحه قد انتصرت على شهوات الجسد، وقد انتصرت في حروب الشياطين. وقد غلبت العالم والمادة. روحه تزفها الملائكة بتهليل إلى السماء، حينما تأتى ساعته.
ةالإنسان الروحي ينتصر، لأنه إنسان قوى، يعمل فيه روح الله بقوة. وقد صارت إرادته في تسليم كامل لإرادة الله.
الإنسان الروحي لا يحاول أن ينتصر على غيره.
لأنه يحب غيره، ويقدمه على نفسه في الكرامة (رو 12: 10)، بينما يأخذ هو المتكأ الأخير (لو 14: 10). إنه يحب أن ينتصر على الشر، وليس على الأشرار. يحب أن ينتصر على نفسه، وليس على الآخرين. وهو لا يحب أن ينتصر على الضعفاء والمخطئين، بل بالأكثر أن يحتملهم. كما قال الرسول "يجب علينا نحن الأقوياء أن نحتمل ضعفات" (رو 15: 1).هناك مجالات كثيرة ينتصر فيها الإنسان الروحي:
*إنه ينتصر أولًا على نفسه.
ينتصر في الداخل أولا، لأن أنتصاره الداخلى هو الذي يساعده في الأنتصار على الحروب الخارجية.
الابن الضال (لو 15) لم يستطع أن يرجع إلى أبيه، إلا بعد أن انتصر من الداخلى، ولم تعد له شهوة في الكورة البعيدة، بل شعر فيها بسوء حالته..
ومن أعظم الأمثلة على الانتصار الداخلى، يوسف الصديق. لقد كانت الاغراءات من الخارج قوية جدًا، وكانت تلح عليه كل (تك 39: 10). كانت الخطية هي التي تسعى إليه. ومع ذلك رفض كل تلك الإغراءات، لأن كان منتصرًا من الداخل، فاستطاع في نقاوة قلبه أن يقول "كيف افعل هذا الشر العظيم، وأخطئ إلى الله" (تك 39: 9). صدق القديس ذهبي الفم حينما قال:
لا يستطيع أحد أن يضر إنسانًا، ما لم يضر هذا الإنسان نفسه.
أى أن العوامل الخارجية لا تهزمه إلا إذا كان مهزومًا من الداخل أولًا. ولهذا يقول الرب "فوق كل تحفظ احفظ قلبك، لأن منه مخازج الحياة" (أم 4: 23).
إن القديس أوغسطينوس كان يعيش في الخطية حينما كان مغلوبًا منها، أي حينما كان يشتهيها. ولكنه حينما انتصر على نفسه من الداخل، حينئذ قال عبارته الجميلة "جلست على قمة العالم، حينما أحسست في نفسى إنى لا أشتهى شيئًا ولا أخاف شيئًا".
فإن تعبت يا أخى يومًا، تأكد أنك متعب من الداخل. هناك ثقب في نفسك تدخل منه المتاعب الخارجية. لذلك قال الرب عن الإنسان الروحي المنتصر إنه "جنة مغلقة، عين مقفلة، ينبوع مختوم" (نش 4: 12).
الخطية الخارجية، تبحث عن خطية داخلك، لكي تتحد معها، وتفتح لها أبواب القلب وأبواب الفكر.
والإنسان الروحي الذي يود داخله روح الله، هذا لا تجد الخطية التي في الخارج مكانًا لها في داخله. تطرق على بابه فلا يفتح لها، فتتركه وترحل.. عدو مثلًا يريد أن يثيرك لكي تخطئ، فيجدك غير قابل للاستثارة لأنك قوى في الداخل. ماذا يفعل إذن؟ أما أن يخجل ويتركك، أو أن يعتذر لك، أو يكف عن استخدام هذا الأسلوب معك..
*الإنسان الروحي ينتصر على الخطية والشيطان..
مادام قد انتصر على شهوة القلب من الداخل، فلابد أن ينتصر على الخطية من الخارج، على كل حروبها وكل أفكارها. ولا تخدعه مطلقًا حيل الشيطان نبل كما قال القديس بولس الرسول عنه: لا يطمع فينا الشيطان، لأنن لا نجهل أفكاره (2 كو 2: 11).
والإنسان الروحي إن حاربته الخطية، يقاومها بكل قوة.
مستفيدًا بذلك من توبيخ القديس بولس الرسول للعبرانيين "لم تقاوموا بعد حتى الدم، مجاهدين ضد الخطية" (عب 12: 4). ومستمعًا إلى قول القديس بطرس الرسول "اصحوا واسهروا، لأن إبليس خصمكم كأسد زائر.. فقاوموه راسخين في الإيمان"،. إن الإنسان الأول انخدع من حديث الحية (تك 3)، وفقد صورته الإلهية، منهزمًا أمام الخطية. أما الإنسان الروحي فليس كذلك. إنه يحب أن ينتصر، مستفيدًا من دروس الماضي.
إن أسوأ ما في هزيمة الأشرار، افتخارهم بخطاياهم:
هؤلاء الذين قال عنهم القديس بولس "والآن أذكرهم أيضًا باكيًا، وهم أعداء صليب المسيح، الذين نهايتهم الهلاك.. ومجدهم في خزيهم، الذين يفتكرون في الأرضيات" (فى 3: 18، 19).
أما الإنسان الروحي، فإن مجده في الآلام التي يتحملها لأجل الرب، منتصرًا على ذلك الخزي الذي يفرح به الخطاة.
* الإنسان الروحي ينتصر على العوائق التي تقف في طريق حياته الروحية. وينتصر أيضًا على العوائق التي تعترض نموه الروحي. إنه لا يسمح لشئ أن يعطله لغيره انظروا ماذا قال القديس بولس: "من سيفصلنا عن محبة المسيح؟! أشدة أم ضيق أم اضطهاد، أم جوع أم عرى، أم خطر أم سيف؟! ولكننا في هذه جميعها يعظم انتصارنا بالذى أحبنا. فإنى متيقن أنه لا موت، ولا حياة، ولا ملائكة ولا رؤساء ولا قوات، ولا أمور حاضرة ولا مستقبلة، ولا علو ولا عمق، ولا خليقة أخرى، تقدر أن تفصلنا عن محبة الله التي في المسيح يسوع ربنا" (رو 8: 35-39).
الإنسان الروحي لا يقدم أعذارًا إذا لم ينتصر. بل يقدم اعترافا بالخطأ وتوبة.
إن الأعذار لا تبرر الهزيمة أمام العدو. لقد لجأ كل من آدم وحواء إلى تقديم الأعذار، فلم تكن مقبولة منهم الله. فالله قد وضع أمامنا كل وسائل النصرة وهو مستعد أن يقودنا في موكب نصرته" (2كو2: 14).. العيب إذن إرادتنا. وكل محاولة لتبرير هزيمتنا في حروبنا الروحية، هي خطية أخرى تضاف إلى هذه الهزيمة..
الإنسان الروحي ينتصر أيضًا على الضيقات والمشاكل
المشكلة لا تهزه، ولا تهزمه، ولا تضعف معنوناته، ولا تعكر نفسيته، ولا يستطيع أن تلقيه في دوامات القلق والاضطراب والشك. إنما هو ينتصر على المشكلة ولا يضيق قلبه به، ولا يفقد سلامه بسببها.
إنه ينتصر على المشاكل بالإيمان وبالصلاة والصبر.
ولعل من الأمثلة البارزة في هذا المجال: أيوب الصديق. كانت المشاكل التي حلت عليه، أصعب من أن يحتملها قلب إنسان عادى. من ذا الذي يستطيع أن يحتمل فقد كل بنيه وبناته في يوم احد؟ ويفقد معهم كل ثروته وغناه؟! ولكن هذا الإنسان الروحي لما سمع هذه الأخبار المحزنة قال "الرب أعطى، الر أخذ فليكن اسم الرب مباركًا"، "عريانًا خرجت من بطن أمى وعريانًا أعود إلى هناك" (أى 1: 21). لذلك حسنًا قال الله عنه إنه "ليس مثله في الأرض. رجل كامل ومستقيم" (أى 2: 3).
الإنسان الروحي، لا ينتصر فقط على الضيقة، بالاحتمال، بل أكثر من هذا يفرح بها.
كما قال القديس يعقوب الرسول "احسبوه كل فرح يا أخوتى، حينما تقعون في تجارب متنوعة" (يع 1: 2). كما قال القديس بولس الرسول "بكل سرور أفتخر بالحرى في ضعفاتى، لكي تحل على قوة المسيح. لذلك أسر بالضعفات والشتائم والضرورات والاضطهادات والضيقات لأجل المسيح.." (2كو 12: 9، 10).
وما أجمل ما قيل عن الآباء الرسل بعد أن سجنوهم، ثم جلدوهم وأطلقوهم.. قيل "وأما فذهبوا فرحين.. لأنهم حسبوا مستأهلين أن يهانوا من أجل اسمه" (أع 5: 41).
الإنسان الروحي إذا حلت به ضيقة، يقول في إيمان: إنها للخير:
متذكرًا قول الرسول "كل الأشياء تعمل معًا للخير للذين يحبون الله" (رو 8: 28). لذلك فالضيقة لا تهزه، بل تقوى إيمانه، لأنه يعرف تمامًا أن الطريق الموصل إلى الله، هو طريق ضيق (مت 7: 14). فهو يتوقع إذن هذا الضيق، ويسر به لأنه دليل على أنه سائر في طريق الله. ثم هو بالإيمان ينتظر تدخل الله لإخراجه من الضيقة. وعلى أية الحالات فإنها تحمل له أكليلًا.. وبهذه المشاعر كلها ينتصر على الضيقة...
*و الإنسان الروحي لا يجد لذته في العالم، بل يفرح بالانتصار على العالم وما فيه من المادة والشهوات..
وما أجمل ما قاله أحد الأدباء "افرحوا لا لشهوة ونلتموها، بل لشهوة أذللتموها". وبالانتصار على الشهوات يثبت الإنسان الروحي إنه ابن لله، لأن "كل الذين ينقادون بروح الله، أولئك هم أولاد الله" (رو 8: 14). إذا ينقادون بروح الله ينتصرون على الخطية ويفعلون البر، "المولود من الله لا يخطئ" (1يو 4، 5).
وحياة الإنتصار مفرحة، لأن الإنسان الروحي يصبح بها قدرة لغيره.
ويقدم للناس مثالًا على إمكانية حياة البر، وعلى أن حياة الانتصار هي واقع عملي يلمسونه أمامهم. كما يعطى مثالًا عن قوة أولاد الله التي ساعدتهم على الانتصار، كما قال القديس يوحنا للشباب "كتبت إليكم أيهًا الشباب "كتبت إليكم أيها الشباب، لأنكم أقوياء، وكلمة الله ثابتة فيكم، وقد غلبتم الشرير" (1يو 2: 1). وكرر أيضًا تلك العبارة "وقد غلبتم الشرير" (1يو 2: 13).
*وحياة الانتصار مفرحة من أجل الوعود التي أعطاها الرب للغالبين.
وقد سجلت في الرسائل التي أرسلها الرب إلى الكنائس السبع التي في آسيا (رؤ2، 3).
فقال لملاك كنيسة أفسس "من يغلب فسأعطيه أن يأكل من شجرة الحياة التي في وسط فردوس الله" (رؤ2: 7). وقال لملاك كنيسة سميرنا "من يغلب فلا يؤذيه الموت الثانى (رؤ2: 11). والمعروف أن الموت الأول هو مفارقة الروح للجسد. أما الموت الثانى فهو الموت الأبدى، أو هو الحرمان من الله، والإلقاء في الظلمة الخارجية حيث البكاء وصرير الأسنان (مت 13: 42).
وقال لملاك كنيسة برغامس "من يغلب فسأعطيه أن يأكل من المن المخفى.. وأعطيه اسما جديًا" (رؤ 2: 17).
وقال لملاك كنيسة ثياترا "من يغلب ويحفظ أعمالى إلى النهاية، فسأعطيه سلطانًا على الأمم.. آخذت أنا أيضًا من عند أبى، وأعطيه كوكب الصبح" (رؤ 2: 26 – 28).
وقال لملاك كنيسة ساردس "وم يغلب سيلبس ثيابًا بيضًا، ولن أمحو اسمه من من سفر الحياة، وسأعترف باسمه أمام أبى وأمام ملائكته" (رؤ 3: 5).
وقال لملاك كنيسة فيلادلفيا "من يغلب فسأجعله عمودًا، في هيكل إلهى" (رؤ 3: 12).
وقال لملاك كنيسة لاوديكية "من يغلب فسأعطيه أن يجلس معى في عرش، كما غلبت أنا أيضًا وجلست مع أبى في عرشه" (رؤ 3: 21).
ما أجمل هذا.. السيد المسيح يريدك أن تغلب، وأن تجلس معه في عرشه، في الملكوت الأبدى.
وإن كنت من الغالبين، تأكل من شجرة الحياة، ومن المن المخفى، وتلبس ثيابًا بيضًا، وتصير عمودًا في هيكل الله ويصبح لك سلطان، وأسمك في سفر الحياة، بل يكون لك اسم جديد..
وإن غلبت تسكن في مدينة الله، في أورشليم السمائية مع الله والملائكة والقديسين (رؤ21)، وترث الملك المعد للأبرار منذ تاسيس العالم (مت 25: 34)، وحيث يكون المسيح، تكون المسيح، تكون أنت أيضًا (يو 14: 3)، وتتمتع بما لم تره عين، ولم تسمع به إذن، ولم يخطر على قلب بشر (1كو 2: 9). ولا يقوى عليك الموت الثانى، بل تقوم في مجد، بجسد سماوى روحانى (1كو15: 43، 44، 49). كل هذه الأمجاد للغالبين