فرحة طفل بقطرات المطر
«ما معنى الحياة؟ الحياة يجب ألا تكون مثل سحابة هائمة مع الريح لا هدف لها»، كلمات قالها رجل حكيم وهو يجلس فى الغابة بالليل يتأمل سحابة هائمة فى السماء الواسعة، سمعته السحابة فقالت فى غرور.. «من يكون هذا الرجل العجوز حتى ينتقدنى؟!.. هل سافر وتجول مثلى فى كل أرجاء الدنيا؟».
فى الصباح وبينما السحابة تتجول فى السماء وتلهو مع الطيور، سمعت أصواتاً عالية، نظرت إلى مصدر الصوت فوجدت مجموعة كبيرة من الأطفال فى فناء مدرسة، البعض يلعب بالكرة، والآخر يراجع دروسه. كانت السحابة تحب الأطفال فهم دائما ينظرون لها فى انبهار، يداعبونها بطائراتهم الورقية ويتابعونها، حتى تختفى وراء سحابة كبيرة فيشعرون بالحزن.
فى فناء المدرسة رأت السحابة تلميذاً يجلس تحت ظل شجرة كبيرة يمسك بكتاب لم يقلب صفحة واحدة فيه يتثاءب وينظر للسماء، ثم قام ليلعب بالكرة مع زملائه وترك الكتاب المفتوح يقع على الأرض، رآه المدرس فقال له: «أرجو أن تحافظ على كتبك وتصبح أكثر تركيزاً فى دروسك ولا تكن مشتتاً مثل سحابة شاردة فى السماء لا معنى لها ولا هدف»، اعتذر التلميذ للمدرس وهو يشعر بالخجل.
سمعت السحابة كلام المدرس فقالت فى غضب: «لثانى مرة أسمع نفس الكلام، هؤلاء البشر لا يعرفون قدرى ويستهينون بى، لا تهمنى الأرض بما عليها، أنا ملكة وعرشى هو السماء الرحبة.. تندفع حولى الطائرات وهى تحمل هؤلاء البشر، ينظرون إلىّ فى إعجاب.. تحلق حولى الطيور وتغرد أجمل الألحان، حتى النسور تطير بجانبى ولا تجرؤ على إزعاجى».
سمعت الشمس كلام السحابة الغاضبة واقتربت منها، وعندما رأتها السحابة قالت لها فى اندفاع: «كنت على حق عندما نصحتك يا شمس بألا تسرفى فى نشر أشعتك على هؤلاء البشر، إنهم لا يشعرون بأى امتنان لك على تضحيتك من أجلهم».
قالت الشمس: «أنا لا أشعر بأنى أضحى عندما أمنح أشعتى الذهبية لكل الكائنات فمن أجل ذلك خلقنى الله، عندما يستقبل النبات أشعتى تنضج الثمار، وعندما تنتشر أشعتى فى السماء يولد يوم جديد فى حياة البشر فيشعروا بالنشاط ويسرى الدفء فى أجسادهم ويدفعهم للعمل فالحياة بلا عمل لا معنى ولا هدف لها، وأنا بعملى أشعر بوجودى».
سمعت السحابة كلام الشمس فقالت فى سخرية: «عمل! لقد تجولت بالليل فرأيت حكيماً يجلس فى الغابة بلا عمل لم يفعل شيئا سوى أن ينظر إلى السماء وينتقدنى. فى الصباح كنت أحلق فوق مدرسة فرأيت أحد التلاميذ يمسك بالكتاب وينظر فى كسل للسماء ويتثاءب، وعندما أراد المدرس أن يعنفه شبهه بى وكأنى أنا المسئولة عن كسله وإهماله. كم هم ظالمون هؤلاء البشر! كيف أكون بالنسبة لهم رمزاً للكسل واللامبالاة وأنا دائماً فى حركة ونشاط؟!».
ابتسمت الشمس وقالت: «أنت تسافرين فى كل مكان، تنظرين بعينيك إلى الأشياء ولكن لا يستفيد بها عقلك ولا يشعر بها قلبك، هل شعرتِ يوماً بفرحة البشر بقطرات المطر عندما تهديها لهم السماء فيبتهلوا إلى الله شاكرين نعمته التى تمنحهم الحياة؟ هل أحسستِ يوماً بمدى حزنهم عندما تشتد الرياح وتعصف بالأشجار وتسقط الثمار دون أن تنضج؟ هل سألتِ نفسك يوماً ما هدفى فى الحياة؟».
لم تعلق السحابة على كلام الشمس وتركتها غاضبة وهى تتساءل: «كيف تتهمنى الشمس بأنى بلا هدف؟! أنا مصدر سعادة لكل من يرانى، أليس هذا كافياً؟».
غابت الشمس ومن خلف السحاب تسلل القمر وتوسط السماء، كانت السحابة ما تزال غاضبة من الشمس.. اقتربت من القمر وقالت له: «لماذا تتهمنى الشمس بالكسل مع أننى لا أختفى مثلك وأترك السماء فى ظلام؟!»، قال القمر: «فى سؤالك الإجابة يا سحابة، أنت تتسائلين كيف تتهمك الشمس بالكسل واللامبالاة، مع أنك لم تلاحظى أن اختفائى ليس دليلاً على إهمالى فى عملى فأنا تابع لكوكب الأرض، ولكنى على عكس ما يعتقد الكثيرون تابع مُعتِم لا يضىء وإنما أنا أعكس نور الشمس فقط، وعندما أدور حول الأرض أمرّ بمراحل كثيرة تبدأ بـ«المحاق» ثم شيئاً فشيئاً بعد سبعة أيام أواجه نور الشمس فأصبح «هلالاً» على شكل نصف دائرة تزداد يوما بعد يوم.
وفى اليوم الخامس عشر من الشهر تكون الأرض فى منتصف المسافة بينى وبين الشمس فأظهر على شكل دائرة كاملة هى «البدر»، ثم تتناقص الدائرة شيئاً فشيئا فأصبح «هلالاً» ثم «محاقا» وهكذا.. ما رأيك يا سحابة فى هذه الرحلة التى أقوم بها؟»، توارت السحابة خجلاً من القمر واندفعت مع الريح، وفى رحلتها أخذت تمتص البخار المتصاعد من البحيرات والأنهار فيزداد حجمها اتساعاً.
أصبحت السحابة أثقل وبدأت تخفض من ارتفاعها وعندما حلقت فوق أرض أصابها الجفاف، اهتزت السحابة، وأصابتها رعشة لم يسبق أن مرت بها من قبل، وفى هذه اللحظة اقتربت منها كثير من الغيوم الصغيرة وبدأت تندمج فيها وازداد حجم السحابة أضعافاً وتحولت السحابة الشاردة الكسول إلى سحابة ممطرة نشيطة وارتجفت قائلة: «لينزل المطر.. لينزل المطر»، ونزل المطر وعانقت السحابة لأول وآخر مرة الأرض وتساقطت دموعها فى شكل حبات المطر التى تهب الحياة لكل الكائنات فالماء هو الحياة.
فى هذه اللحظة فقط صار للسحابة هدف وعرفت معنى الحياة.